المعالم الدّفاعيّة بجزيرة جربة : الأبراج السّاحليّة
المعالم الدّفاعيّة بجزيرة جربة : الأبراج السّاحليّة إعداد: سعيد بن يوسف الباروني المقدّمة : تحتلّ العمارة الدّفاعيّة موقعا أساسيّا ضمن العمارة الجربيّة وتكوّن عنصرا بارزا من عناصر النّسيج المعماريّ للجزيرة وذلك من حيث كثافة العدد والمكانة التّاريخيّة والقيمة المعماريّة. سنحاول في هذا البحث المتواضع الحديث عن: أ- المدخل الجغرافيّ ب- المدخل التّاريخيّ ج- المعالم د- الخلاصة -Iالمدخل الجغرافيّ : تحتلّ جزيرة جربة موقعا استراتيجيّا متميّزا في خليج سرت الصّغريّ - خليج قابس- يتمثّل هذا التميّز في انفتاح الجزيرة على المجال القارّيّ والبحريّ معا وفي توسّطها طريقا بحريّا يربط بلاد المغرب بطرابلس والقاهرة وفي ثقلها الاقتصاديّ طوال العهود القديمة والوسيطة والحديثة المتمثّلة في مجال التّجارة القوافليّة الصّحراويّة . لعبت جربة دورا كبيرا في التّجارة مع البندقيّة ومالطة خلال القرنين 14 و 15 ميلاديّ فكانت تصدّر الزّيت والصّوف (زرابي وبرانس ) وأواني الفخّار. كان هذا الموقع الإستراتيجيّ والثّروة الطّبيعيّة باعثا لأطماع الدّول البحريّة المتصارعة في البحر الأبيض المتوسّط كالفينيقيّين والرّومان والبيزنطيّين والعرب والإسبان والأتراك. مازال البحر الأبيض المتوسّط حلقة الوصل بين الشّعوب باعتباره طريقا عالميّا للتّجارة والعبور الدّوليّين. هذه الأهمّية الكبرى لموقع الجزيرة عرّضتها إلى عدّة حملات أوروبيّة لاحتلالها طمعا في منتوجاتها لكنّ أهل جربة تصدّوا لهذا الغزو فقاوموا الاستعمار وحاربوا القرصنة بكلّ ما أتوا من جهد. -II المدخل التّاريخيّ : أهمّية موقع الجزيرة الإستراتيجيّ أثارت أطماع النّورمان الّذين استقرّوا في جزيرة صقليّة في القرن 11 م باحتلال جربة و كلّ المواني التّونسيّة . تمكّنوا من السّيطرة عليها بعض الوقت خلال القرن 12م إلى أن تمّ تحريرها من طرف قوّات الموحّدين عام 1159م بعد تحرير مدينة المهديّة. في عام 1284م تمكّن ملك صقليّة الأميرال روجي دي لوريا Roger Deloria من احتلال جربة وأنشأ بها البرج الكبير ليتحصّن به جنوده فتصدّى الجربيّون لجيشه الغازي وقاوموا الإحتلال الصّقلّي طيلة الربّع الأخير من القرن 13م وتمكّنوا من تحرير جزيرتهم سنة 1333م . أمّا في سنة 1432م تعرّضت جربة إلى حملة عسكريّة قادها الفونس الخامس الأرقوني الإسبانيّ بنفسه إلاّ أن هذه الحملة فشلت فشلا ذريعا. أمّا خلال القرن 16 ميلاديّ تعرّضت جزيرة جربة إلى اربع غارات أوروبيّة في ظرف خمسين عاما ما بين 1510 و 1560م ضمن الصّراع في الحوض الشّرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط بين القوى الإسلاميّة ممثّلة في الأتراك من جهة والقوى النّصرانيّة ممثّلة في الأسبان والإيطاليّين والمالطيّين من جهة أخرى. 1- في سنة 1510م غزا الكونت دون بيدرو نفارو Don Pedro Navaro جربة بعد احتلاله مدينة طرابلس لكنّه هزم شرّ هزيمة وقتل ثلاثة آلاف من جنوده وعلى رأسهم دون غرسيا الطّليطلي دوق ألبا Don Garcia di Toledo. 2- في سنة 1520م غزا دون هوق دومونكاد Don Huge de Moncade نائب ملك صقليّة جزيرة جربة بمائة سفينة تقلّ 13500 من المشاة و1000 فارسا لكن تصدّى له الأبطال وألحقوا به هزيمة منكرة وخسر 600 رجلا. 3- في سنة 1551 م قدم القرصان الإيطاليّ الجنوبيّ أندري دوريا André Doria إلى جربة على راس أسطول صليبيّ وحاول حصار درغوث باشا وتحطيم أسطوله في مضيق القنطرة جنوب الجزيرة لكنّ درغوث تمكّن من سحب أسطوله وبكيفيّة عجيبة إلى المياه العميقة بعد حصار دام ثلاثة أيّام. 4- في سنة 1560م احتلّ جان دلاسيردا Jean de La Cerda جزيرة جربة قرابة الشّهرين ونصف لكن تمكّن أهل الجزيرة بمساعدة درغوث باشا من حصار القوّات الغازية المتحصّنة بالبرج الكبير ثلاثة أشهر انتهت باستسلام الغزاة وأسر 700 رجلا وقتل 5000 بنى بجماجمهم برجا غربيّ البرج الكبير. هكذا كانت جزيرة جربة عصيّة على الغزاة استبسل أهلها والمدافعون عليها من الأتراك العثمانيّين وحموها من السّيطرة الأوروبيّة و من محاولات التّنصير . بداية من سنة 1571م تراجع دور جربة العسكريّ ثمّ مع بداية حكم مراد الثّاني 1659-1675م بدأ تدخّل بايات تونس في شؤون طرابلس وعادت جربة إلى مسرح الأحداث العسكريّة، فتمّ بناء أبراج جديدة لمقاومة القرصنة المالطيّة الّتي كانت تشجّعها فرنسا بعد استيلاء علي باشا على جربة وإصلاح الأبراج القائمة في عهد حمّودة باشا الّذي أحدث الطّبخانات. إنّ ما نستخلصه من العرض التّاريخيّ الموجز لأهمّ الأحداث العسكريّة الّتي عرفتها جربة أنّها كانت بدون انقطاع عرضة إلى الغزو الأجنبيّ، فكانت سواحلها مسرحا للعديد من المعارك منذ الحروب البونيقيّة الّتي دارت بين روما وقرطاج فقد اتّخذ قادة الرّومان جربة هدفا استراتيجيّا للقضاء على قرطاج وحاولوا افتكاكها سنة 253 ق م. عاش سكّان الجزيرة تحت التّهديد المتواصل عبر التّاريخ فسعوا إلى تشييد الحصون وانتشرت المساجد القلاع على سواحل الجزيرة وكوّنت سلسلة دفاعيّة متقدّمة ضد المعتدبن زيادة على دورها التّعبّدي. إنّ تميّز جربة المذهبيّ الإباضيّ وموقعها الإستراتيجيّ إضافة إلى خصوصيّة تركيبة سكّانها أفرزت مسارا تاريخيّا مليئا بالصّراع ممّا أدّى إلى بناء سلسلة من التّحصينات السّاحليّة المتفرّدة من حيث مكوّناتها ومن حيث خصائصها الّتي سنحاول الوقوف عليها في الحديث عنها لاحقا . إن التّحصين على رأي المختّصين من الأمور الهامّة في تاريخ تخطيط المدن. إنّه دليل توسّع عمرانيّ ونموّ سكّانيّ وازدهار اقتصاديّ، غير أنّ الهدف الدّفاعيّ يبقى من أولويّات التّحصين فالحصن هو الدّرع الواقي للمحارب أثناء المعركة ضدّ الخطر الدّاهم. لم يشذّ أهل جربة عن هذه القاعدة فكانت هذه المنشات الدّفاعيّة ( أبراج ،مساجد ساحليّة، بيوت عسّة، طبخانات ) . 1) فما هي الأبراج والحصون ؟ لقد ورد في لسان العرب لابن منظور- طبعة دار صادر بيروت 1981 - ما يلي: "حصّن المكان منع، والحصن كلّ موضع حصين والجمع حصون" .أمّا البرج فهو بناء مرتفع ملحق بسور قلعة أو مدينة وقد يمثّل بناء مستقلّا. 2) ما هي المساجد السّاحليّة أو ما يسمّى بمساجد شطوط الجزيرة ؟ بنيت هذه المساجد على سواحل الجزيرة لإقامة المرابطين لئلاّ يهاجمهم العدوّ بغتة وهي مراقب متقدّمة لخفر السّواحل ونقل الإشارات والتّنبيه عند حدوث خطر. 3) أمّا بيوت العسّة فهي عبارة عن نقاط حراسة على امتدادات واسعة من ساحل الجزيرة. 4) أمّا الطّبخانات الّتي تتفرد بها جزيرة جربة فهي من التّحصينات الدّفاعيّة أعّدت لصدّ الهجمات بما جهّزت به من مدافع ويرجّح إنّها إضافات عثمانيّة . III- المعالم : يعود بناء أغلب هذه المعالم سواء للمراقبة أو للدّفاع إلى العهدين الوسيط والحديث والبعض منها إلى الفترة القديمة و هي مرتبطة بفترات الصّراع الّتي كانت فيها جربة مطمعا للقوى البحريّة المتوسّطيّة فهي إذن معالم تحصين ونقاط مراقبة تشهد على ظروف سياسيّة إقليميّة ومتوسّطيّة متوتّرة. يذكر الأستاذ محمّد علي الحبيب في بحثه لنيل شهادة الدّراسات المعمّقة اختصاص تاريخ وسيط تحت عنوان:" التّحصينات السّاحليّة لجزيرة جربة "ص: 177 أنّ عدد المعالم على مختلف سواحل الجزيرة بلغت 63 معلما موزّعة حسب الجدول التّالي: النّسبة المجموع بيوت العسّة مساجد الشّط الطّبخانات الأبراج السّاحل 35% 22 7 8 4 3 الشّمالي 16% 9 2 2 3 2 الشّرقي 8% 5 2 2 1 0 الغربي 41% 26 6 13 1 6 الجنوبي 100% 62 17 25 9 11 المجموع وذكر محمّد قوجة في تحقيقه لكتاب علماء جربة المسمّى برسائل الحيلاتي - طبعة دار الغرب الإسلاميّ لسنة 1998 صفحة 86- تعليقا للشّيخ سالم بن يعقوب حول زيارة مساجد شطوط الجزيرة:"كان القصد من هذه الزّيارات لمساجد الشّطوط خفر سواحل الجزيرة وقد بنيت تلك المساجد السّاحليّة قصد إقامة المرابطين لئلّا يهاجمهم العدوّ فجأة وكثيرا ما يهاجمهم ليلا فأصبحوا أمام أمر واقع . يبلغ عدد هذه المراكز أكثر من خمسة وعشرين أكثرها مساجد لتأدية فريضة الصّلاة فيها وكان الغرض من زيارة العلماء لهذه المراكزتفقّد الخفراء والمرابطين وتشجيعهم وكانوا يصلّون في كلّ مسجد ما شاؤوا من النّوافل ثمّ ينتقلون وهم على الدّوابّ". ويضيف الشّيخ سعيد بن علي بن تعاريت في رسالته: تراجم علماء جزيرة جربة ص36-37-38: "إنّ الزّيارات الّتي كانت تنظّم إلى المساجد متعدّدة الأهداف وكانت ترمي إلى تنشيط الجزيرة من الدّاخل وربطها بالشّبكة السّاحليّة. أسماء معالم التّحصينات السّاحليّة بالجدول الساّبق. الطّبخانات بيوت العسّة مساجد الشّطوط الحصون والأبراج طبخانة برج جليج طبخانة برج جليج الشّرقيّة طبخانة الجزيرة طبخانة سيدي سالم طبخانة جامع مغزال طبخانة مرسى التّفّاح طبخانة مرسى السّاقية طبخانة الرّقّة طبخانة برج آجيم عسّة القالة عسّة البطنيّة عسّة مرسى السّوق عسّة سيدي زايد عسّة سيدي اسماعن عسّة التّلّ عسّة فيلس عسّة مرسى قلّالة عسّة الجزيرة عسّة سيدي بكّور عسّة السّاحل الشّرقيّ عسّة آجيم عسّة الجامع القبليّ عسّة القنطرة عسّة تاربلّة عسّة راس تاربلّة(2) عسّة سيدي زكري مسجد سيدي الحشّاني مسجد سيدي سالم مسجد سيدي يوسف مسجد سيدي القصّار مسجد سيدي زايد مسجد سيدي محرز مسجد سيدي اسماعن مسجد سيدي زكري مسجد سيدي اجمور مسجد الشّيخ يحي مسجد سيدي امغار مسجد سيدي تاوسخت جامع قلّالة مسجد سيدي صالح مسجد سيدي الحاج محمّد مسجد سيدي بكّور مسجد للّاحضريّة مسجد سيدي قاروس مسجد سيدي سليم مسجد سيدي بوعروس مسجد سيدي القرعيّ جامع بومسور الفاهمين مسجد سيدي ياتي مسجد القطعاية القبليّة مسجد سيدي مرسيل مسجد سيدي علي برج جليج برج الغازي مصطفى برج الجماجم ناظور تاقرماس برج أغير برج آجيم برج القنطرة برج تاربلّة برج العقرب حصن قشتيل الوادي برج الوسط بالرّجوع إلى عمليّة الجرد الميدانيّ الّتي قام بها الأستاذ محمّد علي الحبيب في بحثه : التّحصينات السّاحليّة لجزيرة جربة للمعالم تبيّن وجود 52 معلما منها سبعة أبراج أكثرها تماسكا وأنّ هذه المعالم موزّعة على الشّريط السّاحليّ بحساب معلم لكلّ كيلومترين اثنين وهو معدّل مرتفع يؤكّد حقيقة أهميّة هذا النّظام التّحصينيّ للجزيرة ويبرز سجلّا طويلا مليئا بالحروب بالتّصدّي لمحاولات الغزو والإحتواء. ونظرا لكثرة التّحصينات السّاحليّة وتنوّعها سنكتفي بالحديث عن سبعة أبراج وهي : 1-برج جليج 2-برج الغازي مصطفى 3- برج المرسى بآجيم 4- برج تاربلّة 5- برج القنطرة 6- برج العقرب 7- برج قشتيل الوادي 1) برج جليج يقع على مرتفع من الأرض يقدّر ب20 مترا، في الرّكن الشّماليّ الغربيّ لجزيرة جربة. هو برج صغير أنجزه الإسبان في القرن15 م ويسمّى La Tour Nalguernera حسب ما ورد في أطروحة السيّد ناجي جلّول حول المراكز الدّفاعيّة التّونسيّة من القرن 16 إلى القرن 19 ويضيف السّيّد زبيس في كتابه "أثار الدّولة الحسينيّة" أنّ الأمير علي باشا أدخل تحويرات على البرج الأوّل في أواسط القرن 18 وتحديدا سنة 1744م والّذي أكمله على وجهه الحاليّ المهندس الهولنديّ "همبر Hambert" اثر انتصار حمّودة باشا بن علي بن حسين ابن علي تركيّ في الحرب الّتي نشبت بين علي برغل من ناحية والقراماليّين من ناحية أخرى سنة 1796م . يقع البرج وملحقاته على مساحة 2500م2 وهو عبارة عن كتلة مربّعة طول ضلعها 12م ترتفع منارته 20م في وسط الواجهة الشّماليّة وتحفّه مساحات مبلّطة لتجميع مياه الأمطار من جهة الشّرق والشّمال. أمّا جدرانه فيبلغ معدّل سمكها 1.5م وهو على حالة حسنة نظرا لتوظيفه من طرف جيش البحريّة التّونسيّة. يعود موقعه الاستراتيجيّ إلى وجوده على نقطة التقاء ساحلين، السّاحل الشّماليّ والسّاحل الغربيّ وإشرافه على الطّريق البحريّة الوحيدة الّتي تؤمّن الإبحار للبواخر الكبرى بين خليج بوغرارة وميناء حومة السّوق. وحسب خريطة طلبة المدرسة العسكريّة بباردو ذكرت بجانب البرج طبخانة من ناحية البحر بها 7 مدافع أنشئت بعد خضوع الجزيرة لسيطرة الأتراك الّذين أدخلوا تقنيات الطّلق النّاريّ لتأمين الطّريق المؤدّي إلى حومة السّوق. 2) برج الغازي مصطفى - يعدّ برج الغازي مصطفى أو البرج الكبير من أبرز المعالم التّاريخيّة بجزيرة جربة و أحد أهمّ المحاور الّتي ارتبطت بها أحداث تاريخيّة هامّة. ذكر هذا المعلم في عدّة مناسبات من طرف الرّحّالة والجغرافيّين القدامى الّذين أشادوا بعظمة بنايته خاصّة وأنّ هذا البنيان الضّخم ما كان ليختفي عن أنظار زوّار حومة السّوق المقامة على السّاحل الشّماليّ للجزيرة. - يعود بناؤه الّذي أجريت عليه عدّة ترميمات إلى القرن 15م حيث شيّد بأمر من السّلطان الحفصيّ أبي فارس عبد العزيز الّذي تنقّل سنة 1432م إلى جزيرة جربة لردّ الحملة الإسبانيّة الّتي كان يقودها الملك الأراغوني ألفونس الخامس بنفسه. - يقول صاحب دائرة المعارف الإسلاميّة :"أمر أبو فارس عبد العزيز الحفصيّ ببناء هذا الحصن سنة 864ه/1432م لحماية الجزيرة من هجومات النّصارى. " أثبتت الحفريّات وأعمال التّرميم الّتي أجريت على المعلم بداية من شهر جويلية 1968م وجود أسس لحصن قديم يعود إلى القرن التّاسع . يشابه في تصميمه حصن قشتيل الوادي الموجود قرب القنطرة بالجهة الجنوبيّة وهو ما يبرز رأي بعض المؤرّخين بأنّ البرج هو ذلك الّذي بناه القائد الصقليّ روجار دي لوريا سنة 1289م. وفي سنة 1560م احتلّ الجيش الإسبانيّ الّذي وجّهه الملك فيليب الثّاني لمحاربة الأتراك وعاملهم على طرابلس المسيطر على جربة الرّايس درغوث باشا ، برج الغازي مصطفى . فحاصرهم الجربيّون والأتراك أكثر من شهرين انتهى باستسلام الإسبان وانهزامهم بعد مقتل عدد كبير منهم وسيطر درغوث باشا على الجزيرة وكلّف أحد أعوانه وهو القائد غازي مصطفى بتسيير شؤون الجزيرة وترميم البرج وتجديده وتمّت أشغال التّرميم سنة 1567م حسب ما تشير إليه اللّوحة الرّخاميّة الّتي تؤرّخ للإضافات الّتي أدخلها الغازي مصطفى على المعلم وبداية ولايته وهذا نصّها: "بسم الله الرّحمان الرّحيم صلّى الله على سيّدنا محمّد وآله ، جدّد هذا القشتيل المبارك بعد إفتتاحه عن أمر مولانا السّلطان أبي الفتوح سليمان خان بواسطة الباشا أبو المواهب درغوث على يد القائد المكرّم غازي مصطفى سنة ثمانية و ستين و تسعمائة هجريّ". وفي سنة 1881م انتصب الجيش الفرنسيّ داخل البرج ولم يغادره إلّا سنة 1903م عندما تدهورت حالته بأمر من الباي وسّلم المعلم إلى الحكومة التّونسيّة الّتي أقرّته معلما تاريخيّا وطنيّا في 15 مارس 1904م. الشّكل العام والتّخطيط : يحتلّ هذا المعلم مساحة جمليّة تتجاوز 8000م2 يقترب شكله من شبه منحرف ذي زاوية قائمة يحيط بأسوار البرج من الخارج خندق من الجهتين القبليّة والغربيّة أمّا الجهتان الجنوبيّة والشّرقيّة فمنفتحتان على البحر وهو ما أدّى إلى انهيار جداري الخندق نتيجة تقدّم مياه البحر. يبلغ اتّساع الخندق 15م وعمقه يتراوح بين 3 و 4 أمتار. أمّا جدرانه العالية فبنيت من كتل حجريّة مصقولة. تشتمل الواجهة الجنوبيّة على أربعة أبراج مربّعة بينما كان الدّخول إلى الحصن يتمّ في السّابق عبر جسر متحرّك يرفع فوق خندق يحيط بالبرج. أمّا أقسامه الدّاخليّة فتضمّ مرافق متعددّة من بيوت وساحات ودورا علويّا ومدارج ثمّ أضاف إليه القائد الغازي مصطفى مرافق أخرى تتمثّل في غرف وإسطبلات ومسجد كما تحتوي المساحة المقابلة للبرج على فساقي ضخمة تصلح لتزويد الأهالي بالماء. مكّنت أشغال التّرميم في شهر جويلية 1968 من إعادة بناء الأجزاء الخارجيّة وتحصين بعض الأجزاء الدّاخليّة كما مكّنت هذه الأشغال من اكتشاف حصن ثان يعود إلى القرن الثّالث عشر ميلاديّ. وكشفت الحفريّات الأخيرة عن مجموعة كبيرة من الجرار وعدد كبير من الكرات الحديديّة والحجريّة الّتي تقذف بواسطة المدافع من أعلى السّور ومجموعة من الأواني الفخّارية المطليّة والخزف. يعتبر المعلم متماسكا بفضل أعمال التّرميم الّتي أشرف عليها المعهد الوطنيّ للتّراث والتّوظيف من طرف الوكالة الوطنيّة لاستغلال وإحياء التّراث. إنّ في غرفه الرّحبة ما يشجّع على إقامة الكثير من الأنشطة الثّقافيّة و الإجتماعيّة وتنظيم المعارض والنّدوات وهذا ما سعت إلى تكريسه بصفة خاصّة جمعيّة صيانة جزيرة جربة والأوساط المسؤولة ولعلّ المشروع المنتظر لتوظيف أشمل هو إنشاء مركز للبحوث التّاريخيّة يهدف إلى توسيع المعرفة التّاريخيّة المحليّة في إطار الإنجازات المتعدّدة الّتي يقترحها برنامج "العمل الرّائد من أجل التّحسيس إلى المحيط المتوسّطيّ". 3) برج المرسى باجيم: يعتبر برج آجيم من المعالم الدّفاعيّة السّاحليّة الإستراتيجيّة فمضيق آجيم إضافة إلى الطّريق الرّومانيّ الرّابط بين جربة و جرجيس هو همزة الوصل بين اليابسة والجزيرة وهو أعمق مجال يفصل جربة عن القارّة إذ يبلغ عمقه 20 مترا .تشقّ هذا المضيق شبكة أودية يسّرت عمليّة الإبحار فيه وهذا شيء نادر بالنّسبة للجرف القارّي المحيط بجربة ، هذا الموقع الاستراتيجيّ لمراقبة عبور جميع أنواع السّفن دفع درغوث باشا إلى إنشاء برج اجيم سنة 1557م ولأهميّة الموقع أدخل علي باشا الحسينيّ سنة1745م إصلاحات ضروريّة بإعادة هيكلة لأسس مقامة من قبل وتحوّل في عهد الحماية الفرنسيّة إلى مقرّ للقمارق. والمتأمّل في هندسته الخارجيّة يلاحظ صبغته الدّفاعيّة بوجود فتوحات رمي في أعلى جدرانه البحريّة . ترتفع جدران هذا البرج قرابة 5 أمتار وسمكها يقدر ب 1.30م قدّت بحجارة حمراء محليّة مهندمة متوسّطة الحجم من الصّمّ شدّت إلى بعضها بملاط من الطّين والجير عموما. يتوسّط هذا البرج سلسلة من المساجد السّاحليّة قامت بوظيفة المراقبة لهذا المجال الحيويّ المنفتح على القارّة. 4) برج تاربلّة : يقع برج تاربلّة على أقصى نقطة من شبه جزيرة تاربلّة على الواجهة السّاحليّة الجنوبيّة للجزيرة و يرتفع على كدية من الأرض تقدر ب3 أمتار . تمتدّ الآثار الباقية لهذا البرج على مساحة تقدّر ب 13م2 و هي أكداس من الحجارة المتناثرة تبرز من خلالها أسس حائط يمتدّ بين الشّرق و الغرب بسمك 0.80 م و قد اندرس المعلم تماما. بالإضافة إلى موقعه المتميّز على رأس شبه جزيرة تمتدّ بين 5كم طولا و 2كم عرضا فإنّه يشرف على مضيق لا يفصله عن القارّة سوى 2.5كم تمرّ عليه الطّريق المعروفة بطريق الجمال-الإبل- تسلكه القوافل القادمة إلى الجزيرة عبر مصطبات تبرز عند انحسار مياه البحر ويتلخّص دوره في مراقبة التّحرّكات البحريّة بين بحيرة بوغرارة غربا والبحر الأبيض المتوسّط شرقا. أعيد بناء البرج على أنقاض برج صغير شيّد في القرون الوسطى من طرف درغوث باشا سنة 1551م . وكان لهذه الطّريق دور في الصّراع الأسبانيّ الحفصيّ في تخليص جربة من أساطيل الفونس الخامس الّتي تمركزت بميناء القنطرة سنة 1432م حيث باغت أبو فارس عبد العزيز الحفصيّ القوّات المسيحيّة بدخوله الجزيرة من هذا الموقع . 5) برج القنطرة يخلط بعض النّاس بين برجين في الحديث عن برج القنطرة، يقع الأوّل في ميناء القنطرة عند مدخل الجزيرة وهو من الآثار الإسبانيّة في عهد الملك الفونس الخامس الأراغوني Alphonse v d’Aragon في النّصف الأوّل من القرن 15 م شيّده لقطع الطّريق أمام أبى فارس عبد العزيز الحفصيّ الّذي أنجد جربة وأهلها و خلّصها من الأسبان وقد دمّر هذا البرج وأعاد بناءه درغوث باشا حسب الهندسة العسكريّة الّتي تذكّرنا ببرج مدرسة آجيم و هو الآن مقرّ فرقة التّدخّل العامّ التّابعة لوزارة الدّاخليّة . أمّا البرج الثّاني الّذي نحن بصدد الحديث عنه فهو برج الباب الواقع في موضع وسط على الطّريق الرّومانيّة الّتي تربط بين جربة وجرجيس وهو طريق في البحر مبني بالحجر المنحوت يرتفع على مصطبة بحريّة تشرف على مجرى الوادي الكبير من جهة الشّمال وهو واد يمتدّ من هذه المنطقة من الطّريق نحو الشّرق ليصل إلى شبه جزيرة بين الوديان الّتي شيّد في رأسها برج القشتيل. والبرج عبارة عن غرفة تمتدّ على 3م تستطيل بين الشّمال والجنوب سقفها قبوة طويلة تحفّ بها مجموعة غرف مراقبة على ضفّتي الطّريق من الشّرق إلى الغرب. اندثرت معالم هذا البرج ولم يبق ذكره إلا في المصادر التّاريخيّة حيث ورد المعلم على خريطة كاستالدي سنة 1560م كمعلم مرتفع على الجادّة الرّومانيّة تحفّ به من الجهتين الشّرقيّة و الغربيّة مجريا الوادي الكبير وواد الحصار الّذين يمرّان بالموازاة مع السّاحل القبليّ للجزيرة و تبدو الطّريق الرّومانيّة مقطوعة و يوجد البرج شمالي الوادي وكتب على موقعه لفظ Brochio . أشار أبو راس الجربىّ في كتابه "مؤنس الأحبّة في أخبار جربة" ص75 و 76 :"عند برج القنطرة طريق في البحر مبنيّ بالحجر المنحوت من الجزيرة إلى البرّ الكبير مسافته نحو ثلاثة أميال ( أصبح الآن طريقا معبّدا طوله نحو 7 كيلومترا ) وهو منقطع في وسطه عند الوادي وعليه برج صغير من بناء الجاهليّة و به اثر سقالة من خشب توضع و ترفع يمرّون عليها و يسمّى ببرج الوسط" لقد أطلق إسم برج الوسط على هذا المعلم الدّفاعيّ لتوسّطه الطّريق وإسم برج الباب إشارة إلى إنّه يمثّل مدخلا من مداخل الجزيرة إضافة إلى إنّه جسر متحرّك يربط بين ضفتي الطّريق. 6) برج العقرب أو برج طريق الجمال: يقع المعلم في وسط بحيرة بوغرارة في منتصف المسافة بين راس تربلّة والرّصيفات بشبه جزيرة عكّارةكما يقع هذا المعلم في أخر واد الحصار وهو الواد الّذي يشقّ القنطرة الرّومانيّة و يتواصل مع الوادي الكبير المارّ قرب برج القشتيل. الشّكل العام للمعلم دائريّ ، يبلغ قطره 13.20م و هو عبارة عن كتلة معماريّة واحدة تتألّف من فضاء واسع تحيط به ثمانية غرف ممتدّة مستطيلة على صنفين : خمس منها شبه متماثلة في الجهة الجوفيّة و الغربيّة وثلاث غرف أخرى في الجهة القبليّة والشّرقيّة. • أمّا الصّنف الأوّل فهي غرف على شكل معين أطرافه الدّاخليّة غير متساوية الأبعاد وامّا طرفه الخارجيّ فيمثّل كوّة دفاعيّة. سقف الغرف على شكل أقبية طويلة يبدو في إحداها جهة الجوف ثقبان يمكن أن يكونا فوهتان لمزلاج. • أمّا الصّنف الثّاني فهي غرف غير متماثلة الأشكال والأحجام ولا يوجد بها أثر واضح لكوى دفاعيّة. فالغرفة الأولي مربّعة الشّكل طول ضلعها 2.90م سقفها قبو طولي به اثر تقنية الصّنّور والغرفة الثّانية تتعامد مع الغرفة الأولى وتستطيل بين الشّرق والغرب شكلها ربع كرويّ أمّا الغرفة الثّالثة فهي في نفس امتداد الغرفة الثّانية (2.20م / 1.60م) يحاذيها جدار داخليّ يفصل بينه وبين الجدار الخارجيّ فجوة عرضها 0.80م من تراب مدكوك. يبلغ متوسّط سمك الجدران الخارجيّة 1.60م أمّا ارتفاعها فيبلغ ثلاثة أمتار والجدران الفاصلة بين البيوت حوالي 0.70م بنيت من الحجارة الصّغيرة والملاط المستعمل داخليّا وخارجيّا من الجير المخلوط بطين أحمر اللّون وقطع خزف وأصداف بحريّة، تداعت سقوف غرفه وبدأت مياه البحر المحيطة به تهدّد أسواره الخارجيّة. أمّا عن تسميته ببرج العقرب فلها أبعاد أسطوريّة وأمّا تسميته ببرج طريق الجمال فلأنّ القوافل الدّاخلة أو الخارجة من الجزيرة تشقّ مسلكا هو عبارة عن مصطبات بحريّة تبرز في أوقات نزوح مياه البحر فتشكّل بامتدادها طريقا متواصلا يمكن أن يربط بين الجزيرة والقارّة وهو الطّريق الّذي سلكه السّلطان أبو فارس عبد العزيز الحفصيّ عندما قدم لنجدة أهل جربة وتخليصهم من هيمنة الفونس الخامس الّذي قاد حملة سنة 1432م. أقيم البرج على إحدى هذه المصطبات الّتي هي عبارة عن كتلة صخريّة بارزة على سطح البحر وهو من منجزات درغوث باشا الّذي سوّر الجزيرة من جميع الجهات لحمايتها من خطر الغزو المتواصل وسدّ كل الاتّصالات المحتملة بين الإسبان وحليفهم الشّيخ مسعود السّمومني الّذي حكم جربة قبل دخول الأتراك إليها . عموما فإنّ برج العقرب شكّل إحدى سلسلة التّحصينات الهامّة الّتي تنطلق من حصن القشتيل شرقا لتنتهي على راس تربلّة غربا . إن ّكلّ هذه التّحصينات تتّصل ببعضها البعض عن طريق شبكة من الأودية البحريّة تتفرّع في حوض بحيرة بوغرارة وتعتبر حاجزا لقطع الطّريق على الأساطيل البحريّة القادمة لغزو الجزيرة. تتكوّن هذه السّلسلة من الشّرق إلى الغرب من حصن القشتيل فبرج القنطرة ثمّ برج الباب وبرج العقرب وأخيرا برج تاربلّة. 7) حصن قشتيل الوادي : يقع حصن قشتيل الوادي في أقصى نقطة من شبه جزيرة بين الوديان على السّاحل الجنوبيّ لجزيرة جربة و يبعد 9 كلم غربيّ برج أغير. يقول أبو راس الجربيّ في مؤنس الأحبّة ص81 : "و البرج المسمّى بقشتيل الوادي و هو على الحدّ القصير وشرقيه بحر عميق". يوجد في سبخة تمتدّ من برج أغير إلى حدود القنطرة ، لذا يبدو الحصن في هذا المجال المتّسع وحيدا و كأنّه محفوف بمياه البحر من جميع الجهات شكله مربع يبلغ طول ضلعه 40م و ترتفع أسواره إلى 12م من الجهات الأربعة. يبدو المعلم من الخارج كأنّه مكعّب لعدم وجود أبراج وركنيّات داعمة. تعتبر واجهته الشّماليّة من أفضل الواجهات من حيث الصّيانة ، يكتنفها عدد هامّ من كوى القذف وفتحات المراقبة أمّا واجهته الجنوبيّة فهي أكثر الواجهات انفتاحا على البحر، بها فتحة يقدّر اتّساعها ب7م هي المدخل الرّئيسيّ للمعلم وواجهته الشّرقيّة أكثر الواجهات تداعيا بها ثلاث ثقب في اتّجاه الرّكن الجنوبيّ الشّرقيّ واجهته الغربيّة متداعية في جزء كبير منها، بأسفلها ثقب كبير مغمور بأكوام الحجارة المتناثّرة على جنبات الواجهة. أمّا بالدّاخل ففضاء واسع مكشوف أغلب مكوّناته متداعية ذو طابقين: 1- طابق علويّ به بيوت تنفتح على وسط الصّحن. 2- طابق سفليّ يتميّز عن العلويّ بنوعيّة الحجارة المكوّنة له و بتقنية الصّنّور في تسقيفه . تبرز على جدران الحصن تصدّعات خطيرة تهدّد بسقوط كامل مكوّنات السّور الخارجيّ. يعتبر حصن قشتيل الوادي ثاني المعالم الدّفاعيّة السّاحليّة بجربة ضخامة بعد برج غازي مصطفى بحومة السّوق على الواجهة الشّماليّة للجزيرة. موقعه استراتيجيّ لوجوده على ضفّة واد تحت مائيّ يؤمّن مسير البواخر و الأساطيل العسكريّة قبالة السّواحل الجنوبيّة للجزيرة ، لهذا يطلق عليه قشتيل الوادي للتّفريق بينه و بين قشتيل حومة السّوق (برج الغازي مصطفى) ويقع ضمن سلسلة من التّحصينات السّاحليّة الضّخمة الّتي تمتدّ على كامل مساحة خليج بوغرارة و تؤمّن هذا المجال الحيويّ الفاصل بين الجزيرة و القارّة. أمّا الجانب التّاريخيّ للحصن فيقول الأستاذ جمعة شيخة في كتابه" قرقنة و جربة من خلال كتب الرّحّالة" : "القشتيل كلمة إسبانيّة و هو حصن بناه النّصارى سنة 1289م بعد احتلالهم الجزيرة لحساب ملك صقليّة سنة 1284 و يقع قرب مدينة مينانكس" . وصف التّيجاني هذا الحصن وصف شاهد عيان فقال: "فلم نزل نمشي بين نخيل باسقة وثمار متناسقة إلى أن وصلنا إلى موضع القشتيل دمّره الله فرأينا حصنا يهول النّاظر اتقانا وهو مربّع الشّكل." بناه الصّقليّون بقيادة روجر دي لوريا بعد إن أصدرت الكنيسة و البابا نونيفانس السّابع أمرا يقضي بالحاق جزيرتي جربة و قرقنة بممتلكات صقليّة و قد صدر هذا القانون يوم 11اوت 1295م و بني القشتيل سنة 668 ه/1289م. يذكّر هذا الحصن أهل جربة بمحنة عسيرة مرّت بهم طيلة 50 سنة (من 1284 إلى 1334) وذهب ضحيّتها العديد منهم بسبب معارضتهم للوجود النّورمندي ومقاومتهم للتّعسّف الّذي سلّطه عليهم. IV الخلاصة : تعتبر العمارة الدّفاعيّة السّاحليّة بجزيرة جربة كلاسيكيّة، تبرز في العناصر التّخطيطيّة للأبراج الّتي شيّدت من طرف القوى الأجنبيّة عن الجزيرة في حين تبدو المؤثّرات المحليّة في مواد وتقنيات البناء. . تتميّز تحصينات خفر السّواحل الّتي أسّست من طرف أهل جربة للمراقبة ثم لنقل الإشارات والتّنبيه عند حدوث الخطر، بصغر حجمها وببساطة هيكلتها وبكثافتها المرتفعة بتحصينات الدّفاع. تعتبر الحصون بجربة صغيرة من حيث المساحة مقارنة بمعالم من نفس النّمط إذ تبلغ المساحة المسوّرة لبرج حومة السّوق وهو أضخم الأبراج بالجزيرة حوالي 3600م2 وهي تمثّل عشر مساحة قلعة دمشق على سبيل المثال أمّا برج قشتيل الوادي فمساحته المسوّرة تمتدّ على 1600م2 فقط. يفسّر صغر حجم هذه المعالم بصغر حجم جزيرة جربة الّتي لا تحتاج إلى معالم أضخم للدّفاع عنها باعتمادها على مساجد محصّنة خلفيّة مثل جامع مدراجن وجامع تلاكين تتأخّر عن الخطّ السّاحليّ بمعدل 2.5كلم ومساجد المراقبة وخفر السّواحل الّتي تمثّل النّسبة الأعظم من التّحصينات الّتي جهّزت بخصائص معماريّة هيّأتها لمجابهة الأخطار. تولّد في نفوس أهل جزيرة جربة هواجس أمنيّة رهيبة بسبب ما تعرّضوا له في العصر الوسيط من حملات تأديبيّة دمويّة وغزوات عسكريّة انتقاميّة من قوى عاتية أجنبيّة و هم محاصرون في أرض عراء وفضاء مكشوف غير ذي دفاعات طبيعيّة، البحر أمامهم وخلفهم وعن يمينهم وشمالهم ، لا جوار قاريّ يرفدهم وينجدهم ولا عمق جغرافيّ يحمي ظهورهم. تجلّى هذا الهاجس الأمنيّ في الشّكل المعماري للمنزل الجربيّ الّذي هو بمثابة كتلة متماسكة منفتحة على الدّاخل ، يخلو من المنافذ الخارجيّة باستثناء كوات الحراسة في غرف عالية في شكل أبراج مراقبة. ذكر الأستاذ الحسين الطّبجي في مقال له بجريدة الجزيرة عدد 254 لشهر فيفري 2010 في حديثه عن البعد النّفسيّ في الأشكال والأمثلة المعماريّة بالجزيرة يقول: "مفارقات عجيبة ولّدت لدى أهلها إحساسا فاجعا متناقضا بوطأة الموقع و المكان و عبء التّاريخ و الزّمان سرعان ما اتّخذ شكل هاجس أمنيّ لازم، ما انفكّ يؤرّقهم و يضاعف همومهم بينما يتراءى لنا نحن فيه تفسير لكثير من الأسرار و الألغاز و الظّواهر المنفردة من قبيل التّشتّت السّكنيّ و نظام المنازل و مراميه البعيدة فيما يعرف بنمط التّهيئة العمرانيّة التّقليديّ في الجزيرة وتحوّله إلى منظومة نظام دفاعيّ مستنبط من وحي الظّروف....ويضيف قوله :"لقد اختاروا التّشتّت السّكنيّ مجسّما في نظام المنازل في غياب يكاد يكون تامّا للمراكز المحصّنة و التّجمّعات الحضريّة المنطوية على نفسها المكتفية عند الشّدائد بذاتها ........إن التّشتّت السّكنيّ و نظام المنازل و التّوزيع المجاليّ القائم على وحدة الحومة بجربة قديما إنمّا هو شكل من أشكال التّحصّن الملائم و الدّفاع العمليّ، لأنّ المنازل في تشتّتها و انتشارها على مساحات مترامية و دور السّكن في تباعدها و توزّعها على نقاط متباينة و في عمق ضيعات صغرى متداخلة تتخفّى وراء طوابي مستعصية عالية و تشدّها إلى بعضها شبكة من الثّنايا و الجادّات عنكبوتيّة تحيل في الغالب إلى مسالك ومسارب مسدودة غير مفضية تتحوّل إلى ضرب من ضروب المتاهات الّتي يسهل عليك دخولها بينما لا يضمن لك أحد الخروج منها بسلام فهي كما البحر الدّاخل إليه مفقود والخارج منه مولود بينما الحملات العسكريّة النّظاميّة و الفرق المسلّحة الغازية عموما تحبّذ هدفا واضح المعالم بيّن الحدود يسهّل عليها مهمّة محاصرته أو تدميره ...فيما يفرض التّشتّت السّكنيّ و التّوزّع العمرانيّ الّذي أمسى متاهة أو نفقا غير ذي قاع على الغزاة مواجهة لا تثبت على حال في شكل حرب عصابات، العدوّ فيها لا يرى ولا يوجد في أيّ مكان، ولكنّه موجود في كلّ مكان و آن، وينبغي ألّا ننسى أن قوّة الأساطيل و الجيوش النّظاميّة الّتي تكمن في عتادها ووسائلها التّدميريّة ستجهض ويبطل مفعولها متى وجدت نفسها تبحث عن عدوّ شبح تتخيّله وتتوقّع غارته ولكنّها عاجزة عن تحديد موقعه أو رصد حركاته ومكمنه وموعد ضرباته". إنّ الصّلة بين البناءات الدّفاعيّة والبناءات الدّينيّة متينة وبديهيّة في جزيرة جربة، فالحصن كان يحتضن المسجد، والمسجد كان يقوم مقام الحصن، وكانت كلّها تحمي الجزيرة وتذود عنها في أيّام المحن والحروب ، وفي أيّام السّلم والرّخاء كانت تقدّم للمجتمع الجربيّ العديد من الخدمات الجليلة في شتّى المجالات.